ما حدث في المتحف المصري الكبير ليس مجرد افتتاحٍ باهر أو صرحٍ معماري مهيب؛ بل هو درسٌ مكتمل الأركان في علم الإدارة والتكامل المؤسسي، يستحق أن يُدرَّس. فقد تكاتفت أكثر من خمسةٍ وستين (65) جهةٍ علمية وتخصصًا، لتقدّم مصر للعالم تحفةً علميةً وفنيةً وإنسانيةً بكل ما تحمله الكلمات من معنى. ومن تصميم مكتب Heneghan Peng Architects وإدارة مشروعٍ تولّتها Hill International، انطلقت واحدة من أعقد التجارب الهندسية والثقافية وأكثرها أناقة في العالم.
بدأت الحكاية من عمارة المكان وفلسفة حضوره إلى جوار الأهرامات؛ صاغتها الهندسة المعمارية، وأحكمت قوامها الهندسة الإنشائية عبر دراسة الأحمال واختيار النظم التي تُتيح فضاءاتٍ رحبة خالية من الأعمدة المعيقة للرؤية، وأسّست لها الدراسات الجيوتكنيكية بفحص التربة والرفع المساحي وتصميم الأساسات. وتكامل ذلك مع هندسة المواد لاختيار خاماتٍ ملائمة للبيئة والسياق، ومع هندسة القيمة التي وازنت بدقة بين الجمال والكفاءة والتكلفة. ثم جاء التصميم الداخلي والتصميم البيئي ليؤكدا الاستدامة وكفاءة الطاقة، فيما ربطت هندسة اللاندسكيب المتحف بأرضه ومحاوره البصرية ومساراته وساحاته الخضراء ضمن رؤيةٍ أشمل للتخطيط العمراني تربط المكان بشبكات الطرق والمناطق السياحية.
وفي قلب البنية التقنية، تولّت الهندسة الكهروميكانيكية تصميم أنظمة الكهرباء والتكييف والتهوية والتحكم الحراري والرطوبي؛ وانضمت إليها منظومات الإضاءة، والصوتيات، و-HVAC، والطاقة المتجددة، وأنظمة التحكم الذكي. كما حازت الواجهات على هندسةٍ متخصصة، وتولّت هندسة الزلازل متطلبات المقاومة والتخفيف، وشاركت الهندسة المدنية في البنى التحتية، إلى جانب الإنشاءات المعدنية، ودراسات السلامة ومكافحة الحريق التي أحاطت بالمبنى حمايةً وتشغيلًا.
على الضفة الثقافية، عملت علوم التراث على المحتوى المتحفي ذاته: حفظٌ وصونٌ وترميمٌ دقيق للقطع الأثرية، وتصميمٌ متحفيّ للعروض ومساراتها وتسلسلها الدلالي، وسينوغرافيا تصوغ المشهد البصري للقاعات. وأسند ذلك علومُ العلامات (السيميائيات) والنقوش والكتابات القديمة، وعلم المصريات والآثار، وعلوم الترميم والمتاحف. وساندتهم الأنثروبولوجيا الثقافية لفهم سياقات القطع، وكيمياء الآثار والفيزياء الضوئية لتحديد المواد والإضاءة الملائمة، إلى جانب الميكروبيولوجيا الخاصة بالتراث لحماية المقتنيات من التلف.
أما محور التكنولوجيا فكان عصب التنسيق والحوكمة الرقمية: نمذجة معلومات البناء (BIM) لتجميع التخصصات في نموذجٍ واحد، ونظم المعلومات الجغرافية (GIS) لربط المتحف بسياقه المكاني، وتحليلات البيانات لمتابعة التشغيل وحركة الزوار، مع تأمينٍ سيبراني راسخ. وتكامل الذكاء الاصطناعي في تنظيم المعرفة وتحليل الأنماط، ووفّرت تقنيات الواقعين المعزَّز والافتراضي تجارب تفاعلية، مدعومةً بالتوثيق الرقمي ثلاثي الأبعاد، وإدارةٍ رصينة للبيانات، ومنظومةٍ ذكية تجمع كل ذلك في منصة تشغيل واحدة.
وكانت الإدارة هي العمود الفقري الذي جمع هذه الخيوط: إدارةُ مشروعات ومخاطر وجودة، ولوجستيات وتكاليف وجدولة زمنية؛ ثم تشغيلٌ وصيانةٌ وهندسة نظم وإدارة عقود، تحت قيادةٍ حكومية حافظت على وحدة الرؤية ودقة التنفيذ. وتولّت فرق الحوكمة الثقافية وإدارة التغيير والأزمات والاستدامة ضمان استمرار التشغيل وأمنه وكفاءته.
وعلى جانب الإبداع، تحوّل الافتتاح إلى حدثٍ عالمي يجمع الفن بالتكنولوجيا: إخراجٌ وإنتاجٌ وتصوير سينمائي، وأزياء وديكور وإضاءة مسرحية، وموسيقى وهندسة صوت وتصميم جرافيكي، وعروض 3D Mapping ودرون وألعابٌ نارية رسمت مشهدًا مصريًا مهيبًا.
ثم تبدأ المرحلة التالية داخل المتحف: علاقاتٌ عامة وتسويقٌ ثقافي يقودان التواصل الدولي والمعارض المتبادلة والترويج للسياحة الثقافية؛ وتعليمٌ متحفي يطوّر برامج تفاعلية للأطفال والشباب؛ وإدارةٌ للجمهور تُحسن تجربة الزيارة من لحظة الدخول حتى الخروج، مدعومةً بدراسات سلوك الجمهور لتحسين المحتوى وتجربة التلقي على نحوٍ مستمر.
خلاصة القول: المتحف المصري الكبير ليس مبنى ولا مناسبة عابرة، بل منظومةٌ حيّة تجمع نحو خمسةٍ وسبعين (75) علمًا وتخصصًا في تناغمٍ نادر، تقدّم من خلاله مصر نموذجًا حضاريًا يوحّد العلم والفن والإدارة والهوية في سيمفونيةٍ واحدة من الإبداع والمعرفة.
