الإتقان (أحد السّمات المُهاجرة عن أداءاتنا فى شتى المجالات)
حيث تحرر هذا الأداء من كوابيس الدّقة والديمومة .. التى تُرهق العقل وتحتال على الضمير .. وأصبح غياب الإتقان .. منهجاً للأمر الواقع يُشرع له دُعاة (الشكل .. والتّمام .. ومشّى حالك .. وخليها على الله)
.. ولست أدرى هل هناك ارتباط ما .. بين هذا المنهج الجديد وذلك التحوّل الذى حدث منذ بداية العصر الصناعى .. واستبدال الإنتاج المُعمّر بالإنتاج الاستهلاكى .. الذى يرتكز على تحقيق الوظيفة بخامات غير مُعمّرة .. مُستهدفاً بذلك انخفاض التكلفة .. والتى لا تتعارض ـ على ما أعتقد فى حقيقة الأمر ـ مع فضيلة الإتقان ، ولقد شهد التاريخ للإنسان المصرى فى عصوره المختلفة .. ملاحم من الإبداع المُتألق .. بدءاً من الحضارة المصرية القديمة .. وهذا الثارء فى كل المعارف والعلوم والتقنيات المتفوقة .. وكذلك عند مختلف أنماط التعبير والأداء .. التى ما ازلت تُبهر العالم المُتحضّر .. مع تنوع ثقافاته.
وقد امتد ذلك الموروث الإبداعى إلى الحرفيين والصنّاع فى العصر الحديث .. حيث أصبحت مصر منارة للإتقان الذى يتبارى فيه الصناع والحرفيين بأعمالهم ، ولقد رصد (الجبرتي) فى تاريخه عن ذلك الموروث الكثير ، وأستعيد من ذلك الرصد حدثاً طريفاً .. يحمل فى طيّاته ملامح الاقتدار والتحدّى .. التى يتضح من خلالها تلك القدارت الفائقة للإنسان المصرى على بارعة الإتقان وحُسن الأداء ، لقد ذكر (الجبرتى):
كان فى مصر .. يُعقد سنوياً عيداً للصنّاع .. حيث يتقدم كل صانع فى ذلك العيد بصنعته أمام لجنة من كبار الصنّاع وبعض الشخصيّات العامة .. فى مُسابقة لأفضل صنّعة فى مصر لهذا العام ، ويتوالى عرض الحرفيين والصنّاع لأعمالهم حيث يتم تقييمهم مبدئياً لحين اكتمال فحص جميع المُتقدمين للمسابقة ، وقبل انتهاء فحص الأعمال المُقدمة من المتنافسين على اللقب (آنذاك) .. دخل رجلاً وقواًر يرتدى جلباباً وجِبّة وقُفطان .. وعلى أرسه عِمامة كبيرة .. تقترب فى شكلها من تلك التى يرتديها رجال الدين الإسلامى ـ الآن ـ ، وطلب الرجل من لجنة التحكيم السمّاح له بالمُشاركة فى المُسابقة .. فسألوه ماذا صنعت .. وأين العمل الذى ستشارك به .. ؟ ـ وكان لا يحمل معه شيئاً عند دخوله إلى اللجنة ـ فقال : لقد صنعت ـ كلبْش ـ (الكلبْش هو القيد الحديدى الذى يُوضع حول أيادى المجرمين عند القبض عليهم) .. هذا الكلبْش من المعدن .. ويوضع وُيغلق على أيدى البرغوت .. (البرغوت حشرة صغيرة جداً تتمتع بسرعة فائقة على القفز والطيران) فتعجب أعضاء اللجنة .. ودفعهم الفضول للتعرف على هذه الأعجوبة .. وطلبوا منه أن يُريهم ذلك .. وقبل أن يعرض عليهم عمله الغريب .. عاود وسألهم : وهل سيتم تحكيم عملى هذا داخل المُسابقة ؟ فردّوا عليه .. نعم ، وطلب الرجل أن يسمحوا له بالجلوس أمامهم على المنضدة .. فأمر رئيس اللجنة بإحضار كرسى ، وجلس الرجل .. ثم وضع يده فى سيّالة القفطان ـ اليُمنى ـ الذى يرتديه تحت الجِبّه .. وأخرج عدسة تُوضع على عين واحدة (كتلك التى يضعونها من يقومون بإصلاح الساعات)..
ولفافة صغيرة جداً وملقاطين صغيرين ، ووضع العدسة على إحدى عينيه .. وفتح اللفافة الصغيرة .. وأخرج منها الكلبْش المصنوع من النحاس والمُتناهى فى الصّغر.. متصلاً به سلسلة دقيقة (أقل من واحد سنتيمتر) .. وفى نهايتها أرس مدبّبة قام بتثبيتها فى السطح الخشبى للمنْضدة التى يجلس عليها .. أمام لجنة التحكيم ، ثم أخرج من سيّالة القفطان ـ اليُسرى ـ لفافة صغيرة أخرى .. قام بفتحها بعناية وحذر باستعمال (الملقاطين).. وأمسك بطرف أحدهما البرغوت الأسير .. الذى كان بداخل الّلفافة الصغيرة .. وبالآخر قام بفتح الكلبْش .. وطوّق به يدا البرغوت المذعور والمُستسلم بين فكىّ الملقاط الأول .. ثم أغلق الكلبْش على يديه .. وأبتعد بأدواته قليلاً ليرى أعضاء لجنة التحكيم والحاضرين جميعاً .. البرغوت وهو يحاول أن يقْفز والكلبْش المُغلق والمُثبت بالسلسلة الدقيقة فى المنضدة حول يديه .. يحول دون ذلك ، وظل يحاول مارت ومارت .. أن يفلت من أسْره ـ دون جدوى ـ حتى خارت قواه وسط تصفيق الحاضرين وانبهارهم بتلك القدرة الفائقة على التحكم والإتقان ، وعند ذلك بدأت المداولة بين أعضاء اللجنة لإعلان النتيجة .. والتى اختارت بإجماع الآارء هذا الكلبْش كأفضل صنعة لذلك العام .. وحصل صاحبها على الجائزة .
ولقد مررت بتجربة فى بداية الثمانينات من القرن الماضى .. تُدلل على القيمة المُستترة للإتقان لدى الإنسان المصرى فى كل شرائحه الاجتماعية ، حيث كان فى ضيافتى صديق ألمانى .. حضر إلى الإسكندرية لاستكمال بحث يقوم به عن العمارة العثمانية فى مصر ، وطلب منى أن أصحبه إلى حيث الآثار الباقية فى الإسكندرية .. التى تنتمى إلى تلك الفترة .. وعند تجوالنا فى شوارع وحوارى الأحياء القديمة .. حيث توجد بعض هذه الآثار ، كان بعض الشباب يقومون فى أحد الحارات الصغيرة ببداية سمكرة الصاج الخاص بسيارة بيجو .. يبدو من حالتها السيئة أنها تعرضت لحادث كبير ،
فسألنى صديقى : ماذا يفعلون ؟
فقلت له : أنهم يعيدون السيارة إلى حالتها
فتوقف عن السير مذهولاً من إجابتى وعاود السؤال .. كيف يتم ذلك ولأى حالة تعود ؟ .. ووجهت سؤاله إلى هؤلاء الشباب .. بعدما انتبهوا إلى اهتمامنا بما يفعلون .. فرد أكبرهم سناً ـ الأسطى ـ (هترجع فابريكة بالصلا على النبى) وقمت بترجمة الرد إلى صديقى .. فرد مُندهشاً .. هذا مُستحيل .. إننا فى بلادنا ـ وفى كل الدول المُتحضرة ـ يتم كبس اى سيارة تتعرض لحادث فى مكبس خاص بالسيارات .. يحوّلها إلى كتلة صغيرة .. ثم يقومون بإلقائها فى عرض البحر ، ويستطرد الصديق مُتعجباً من تلك المقدرة بترديد كلمة
(Unbelievable)
عشرات المارت وهو يتجوّل حول أنقاض السيارة ، ونظارت ساخرة من الأسطى السمكرى وصبيانه .. على عدم ثقته فيهم ، وأثناء الحوار الذى أقوم بترجمته من العامية السكندرية إلى الإنجليزية التى يتقنها الصديق الألمانى سألهم : كم يستغرق إنجاز هذا العمل من الوقت ؟
فأجابوا : شهر ونص بالصلا على النبى ..
وبعد صمت مكث حوالى دقيقة .. نظر إلىّ الرجل .. وقد اكتسى وجهه بملامح الجدّية والإحتارم .. وقال :
سأعود إلى الإسكندرية بعد شهر ونصف .. لأرى نتيجة هذه الأعجوبة ، وإذا أرجعوها لحالة الفابريكة ـ كما يدّعون ـ فسأهديهم سيارة جديدة من نفس الماركة .. أو ما يُعادل قيمتها نقداً
وطلب منى أن أترجم لهم هذا الوعد .. وكانت المُفاجأة التى أذهلت هؤلاء المصريين البسطاء .. بعد أن استوثقوا ماراًر من جدية هذا الوعد .. فقدأكّدت لهم أن المُتحضّرين لا يكذبون .. وطلب منى أن أقوم بمتابعتهم أثناء العمل ، وسافر الرجل ..
ومرت الأيام والأسابيع .. وملحمة من النجاح تتتابع أمام عينى وكأنهم يحملون سمعة هذا الوطن وكارمته فى أعناقهم .. ويعود الصديق الألمانى إلى الإسكندرية .. ونتّجه الى الحارة المُتواضعة مباشرةً (بعد أن أخبرت الأسطى بوصوله) .. وقد ازدات بالفرحة وسط أهالى وأصدقاء هؤلاء النجوم الشرفاء
.. ليجد السيارة عروساً مُتألقة كما وعدوه (فابريكة بالصلا على النبى) وذلك بعد أن أضافوا إليها كل الكماليات ، ويُخرج الرجل من جيبه (وهو فى قمة التعجّب والامتنان).. شيكاً ـ لحامله ـ بقيمة سيارة (على الزيرو) من نفس الماركة بالعملة الألمانية حوالى (سبعون ألف جنيه مصري) ـ فى ذلك الوقت ـ ، ويقدّمه إلى الأسطى وصبيانه .. وسط مشاعر مُؤثرة أدمعت عندها عيون معظم الحاضرين .. ولقد حاول الأسطى وهو يتسلم الشيك .. أن يُقبل يد الصديق الألمانى .. الذى سحب يده مُعترضاً .. ومسك يد الأسطى المصرى وحاول تقبيلها وهو يقول :
هذه الأيادى هى التى يجب أن نُقبلها جميعاً
ولم أستطع من فرط تأثرى وانفعالى بذلك المشهد .. أن أقوم بترجمة رد ذلك الصديق العظيم .. فقد كانت بلاغة الموقف جليلةً أعلى وأغلى من كل الكلمات .
ولاحت فى نفسى مشاعر من التفاؤل والتساؤل .. تطمئن على عظمة الإنسان المصرى .. إذا وجد الإدارة المُتحضرة .. التى تُؤمن بقيمته وقدرته ، أوليس ذلك الإنسان هو الذى صنع العصور المزدهرة فى تاريخ مصر ؟ .. أوليس هو القادر على أن يستأنف ذلك الإزدهار
نعم إنه قادر على أن يستأنف ذلك الإزدهار .. فلننتظر إدارة المتحضرين.
Written by :
الاستاذ الدكتور محمد شاكر : عميد كلية الفنون الجميلة الأسبق